«الإفتاء» توضح حكم العمرة لمن لا تجد من يعتني بأطفالها
تسأل بعض السيدات عن حكم العمرة لمن لا تجد من يعتني بأطفالها، حتى لا يقعن في المحظور ويخالفن الشرع ما يجعل من معرفة حكم العمرة لمن لا تجد من يعتني بأطفالها أمرا مهما.
وورد إلى دار الإفتاء سؤال حول حكم العمرة لمن لا تجد من يعتني بأطفالها، وأجاب عنه مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام عبر الموقع الرسمي لدار الإفتاء ليعرف الجميع حكم العمرة لمن لا تجد من يعتني بأطفالها.
سألت تقول: ما حكم الذهاب للعمرة لمن لا تجد مَن يعتني بأطفالها؟ حيث أرغب في الذهاب للعمرة وعندي القدرة المالية لكن لا أجد مَن يعتني بأطفالي في وقت سفري؛ خاصة أن أحدهم ما زال في مدة الرضاع، ويصعب عليَّ اصطحابهم معي لصغر أعمارهم، فهل عليَّ إثم إن تخلفتُ عن العمرة في هذا العام، وهل الأفضل لي السفر أو البقاء لرعاية أولادي؟
وأجاب المفتي: ينبغي على المرأة القيام برعاية أولادها والبقاء معهم ما دام لا يوجد مَن يقوم بهذه الرعاية لهم في حال تغيُّبها عنهم؛ وبخاصة مع وجود طفل في سن الرضاع، ويحتاج لمزيد رعاية وعناية خاصة، ولا حرج في تأخير القيام بالعمرة إلى الوقت المناسب الذي تتمكن فيه من السفر وهي مطمئنة على أولادها؛ إذ القيام بشعيرة العمرة غير مقيد بوقت دون وقت، والقيام برعاية الأولاد مقرون ومقيد بحاجتهم لذلك.
المفاضلة بين الطاعات والقربات في الشريعة
جاءت أحكام الشريعة الإسلامية موافقة لما عليه طبيعة النفس الإنسانية من حبِّ التطلع والترقي والرغبة في الوصول لأكمل الأحوال وأفضل المقامات، خاصة إذا كان ذلك متعلقًا بطاعة الله تعالى وموصِّلًا إلى محبته ومرضاته، فَوَضَعَتْ لأجل ذلك القواعد المنضبطة التي تتفاضل بها الطاعات والقربات إلى الله تعالى؛ بحيث يلزم تقديم أفضلها إذا ما تعارض مع غيرها في إمكان الفعل أو في اتساع الوقت.
ومن الأمور الحاصلة والمتكررة التي يتعذر أن يجمع فيها المسلم بين طاعتين مأمورٌ بهما، ما جاء في مسألتنا من كون السائلة ترغب من السفر لأداء عبادة العمرة، مع تحتم قيامهما برعاية أولادها في حال عدم وجود مَن يقوم برعايتهم غيرها خاصة إذا كان أحدهم في سِنِّ الرضاع؛ فتتردد الأم آنذاك بين ما يلزمها من الرعاية لأطفالها، وبين ما تتوق إليه نفسها من الزيارة وتحصيل أجر عبادة العمرة.
وللوقوف على مسوغات الترجيح بينهما وتقديم أحد الأمرين على الآخر؛ يلزم بيان حكمهما ومنزلتهما بين العبادات.
بيان حكم العمرة
أما العمرة: فهي شعيرة من شعائر الإسلام، حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القيام بها، وبيان فضلها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» متفقٌ عليه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الْجَنَّةِ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند".
وقد اختلف الفقهاء في حكمها إلى قولين:
الأول: أنها سنة مؤكدة لا ينبغي تركها، وذهب إلى ذلك الفقهاء من الحنفية والمالكية، واستدلوا على القول بسنيتها؛ بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، فهذه الآية هي ممَّا استدل به على فرضية الحج، وقد اقتصرت عليه، ولم تنص على فرضية العمرة، ولو كانت فرضًا لشملتها الآية بالذكر.
واستدلوا أيضًا بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئِلَ عن العمرة، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا هُوَ أَفْضَلُ" أخرجه الترمذي في "السنن"، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
قال العلامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 740، ط. دار الكتب العلمية): [العمرة سنة أي: مؤكدة على المذهب] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 472، ط. دار الفكر): [(قوله: والعمرة في العمر مرة سنة مؤكدة) أي: إذا أتى بها مرة فقد أقام السُّنَّة غير مقيد بوقت غير ما ثبت النهي عنها فيه.. ومنهم من أطلق اسم السُّنَّة، وهذا لا ينافي الوجوب. اهـ.
والظاهر من الرواية: السُّنية؛ فإن محمدًا نص على أن العمرة تطوع اهـ. ومال إلى ذلك في "الفتح" وقال بعد سوق الأدلة: تعارض مقتضيات الوجوب والنفل؛ فلا تثبت، ويبقى مجرد فعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه والتابعين، وذلك يوجب السُّنَّة؛ فقلنا بها] اهـ.
وقال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 466-467، ط. دار الفكر): [وأما العمرة: فهي سنة مؤكدة مرة في العمر، وأطلق المصنف رحمه الله في قوله: إنها سنة مرة في العمر، ولا بد من زيادة كونها مؤكدة كما صرح به غير واحد من أهل المذهب، قال في "الرسالة": والعمرة سنة مؤكدة مرة في العمر، وقال في "النوادر": قال مالك: العمرة سنة واجبة كالوتر لا ينبغي تركها انتهى، وقال ابن الحاج في "منسكه": هي أوكد من الوتر، وفي "الموطأ" قال مالك: العمرة سنة ولا نعلم أحدًا من المسلمين رخص في تركها انتهى، قال أبو عمر: حمل بعضهم قول مالك في "الموطأ": لا نعلم مَن رخَّص في تركها؛ على أنها فرض، وذلك جهل منه] اهـ.
والقول الثاني: أن العمرة فرض كالحج، يأثم المسلم بتركها حال تحقق الاستطاعة عليها، وذهب إلى ذلك الفقهاء من الشافعية في الصحيح عندهم، والحنابلة، وهو المروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، كعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وطاوس وعطاء وابن المسيب، واستدلوا على القول بفرضيتها بقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196].
قال الإمام النووي في "المجموع" (7/ 7، ط. دار الفكر): [فرع في مذاهب العلماء في وجوب العمرة: قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنها فرض، وبه قال عمر وابن عباس وابن عمر وجابر وطاوس وعطاء وابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري وابن سيرين والشعبي ومسروق وأبو بردة ابن أبي موسى الحضرمي وعبد الله بن شداد والثوري وأحمد وإسحاق وابن عبيد وداود، وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور: هي سنة ليست واجبة، وحكاه ابن المنذر وغيره عن النخعي] اهـ.
وقال العلامة البُهُوتيُّ الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 438، ط. دار الكتب العلمية): [(وتجب) العمرة (على المكي كغيره) أي غير المكي؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196].. (ويجبان في العمر مرة واحدة)] اهـ.
وأجاب أصحاب القول بالسنية على ما أورده مَن قال بالفرضية من دليل بأن الأمر بالإتمام الوارد في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ﴾ يصحّ أن يحمل على وجوب إتمامهما بعد الشروع في أيٍّ منهما، ويصح أن يحمل على بداية الشروع فيهما، ولا يترجح أحد الأمرين على الآخر إلا بدليل، علاوة على أن إلزام العبد بإتمام عمل، قد أوجبه على نفسه بالشروع فيه، لا يلزم منه أن ابتداء الدخول والشروع فيه كان فرضًا عليه في الأصل.
قال العلامة الجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 329، ط. إحياء التراث العربي): [واحتج من أوجبها بظاهر قوله ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ﴾، قالوا: واللفظ يحتمل إتمامهما بعد الدخول فيهما، ويحتمل الأمر بابتداء فعلهما، فالواجب حمله على الأمرين بمنزلة عموم يشتمل على مشتمل فلا يخرج منه شيء إلا بدلالة، قال أبو بكر: ولا دلالة في الآية على وجوبها؛ وذلك لأن أكثر ما فيها الأمر بإتمامها، وذلك إنما يقتضي نفي النقصان عنهما إذا فعلت؛ لأن ضد التمام هو النقصان لا البطلان] اهـ.
وقال الإمام الطَّبَرِيُّ في "جامع البيان" (3/ 13، ط. مؤسسة الرسالة): [لا دلالة على وجوبها في نَصْبهم "العمرة" في القراءة؛ إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبدَ عملُه وإتمامُه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداءُ الدخول فيه فرضًا عليه، وذلك كالحج التطوُّع، لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أنّ عليه المضيَّ فيه وإتمامه، ولم يكن فرضًا عليه ابتداء الدخولُ فيه، وقالوا: فكذلك العمرة غيرُ فرضٍ واجب الدخولُ فيها ابتداءً، غير أن على من دخل فيها وأوجبَها على نفسه إتمامَها بعد الدخول فيها، قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحج والعمرة دلالةٌ على وجوب فرضها، قالوا: وإنما أوجبنا فرضَ الحجِّ بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلًا﴾ [سورة آل عمران: 97]، وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين] اهـ.
والمختار للفتوى في حكم العمرة: أنها من السنن المؤكدة التي لا ينبغي أن يتركها المسلم حال تحقق القدرة والاستطاعة عليها.
بيان حكم رعاية الأم لأولادها
وأما رعاية الأم لأولادها فهي من الأمور الواجبة عليها شرعًا، بجامع كونها مسؤولة عنهم، والإنسان لا يُسئل إلا عما يجب عليه فعله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» متفقٌ عليه.
قال العلامة الخطابي في "أعلام الحديث" (1/ 579، ط. جامعة أم القرى): [أصل الرعاية في الكلام حفظ الشيء، وحسن التعهد له، وقد اشترك هؤلاء المذكورون في التسمية، وجرى الاسم عليهم على سبيل التسوية، ومعانيهم في ذلك مختلفة، فأما رعاية الإمام فإنها ولاية أمور الرعية، والحياطة من ورائهم، وإقامة الحدود والأحكام فيهم] اهـ.
وقال العلامة القسطلاني في "إرشاد الساري" (5/ 12، ط. الأميرية): [(والمرأة في بيت زوجها راعية) بحسن تدبيرها في المعيشة، والنصح له، والأمانة في ماله، وحفظ عياله وأضيافه ونفسها] اهـ.
وتتحتم عليها هذه الرعاية وتتعين إذا لم يوجد مَن يقوم بها غيرها، بحيث تأثم إذا تعمدتِ التقصير أو الإهمال في ذلك؛ لما قد يؤول إليه من تضرر الأولاد أو هلاكهم؛ كما في حال الطفل الرضيع الذي يعتمد في غذائه على أمه.
ترجيح قيام الأم برعاية أولادها على العمرة
إذا ما تعارضت هذه الرعاية مع غيرها من الطاعات لزم حينئذٍ تقديمها والقيام بها، لعدة معانٍ معتبرة:
الأول: أن القيام بالواجب مقدمٌ على التطوع، ورعاية الأم لأولادها في حال تحقق الحاجة إلى ذلك واجب عليها، والعمرة مندرجة تحت السُّنِّية رغم تأكدها على المختار في الفتوى.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 296، ط. دار المعرفة): [القيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع] اهـ.
والثاني: أن القيام بما يتعدى نفعه للغير مقدمٌ على ما يقتصر نفعه دون الغير، ورعاية الأطفال يتعدى نفعه إليهم وإلى الأسرة ثم إلى المجتمع كله، والعمرة يقتصر نفعها على خصوص المرأة المعتمرة، وقد تواردت نصوص الفقهاء على أن العبادة المتعدية أفضل من القاصرة، ومن نازع منهم في ذلك لم يختلف في أن التفاضل بين الطاعات إنما يكون على قدر المصالح الناشئة عنها:
قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 144، ط. دار الكتب العلمية): [القاعدة العشرون: المتعدي أفضل من القاصر، ومن ثم قال الأستاذ أبو إسحاق، وإمام الحرمين وأبوه: للقائم بفرض الكفاية مزيَّة على العين؛ لأنه أسقط الحرج عن الأمة. وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وأنكر الشيخ عزُّ الدِّين هذا الإطلاق أيضًا.. ثم اختار -تبعًا للغزالي في "الإحياء"- أن أفضل الطاعات على قدر المصالح الناشئة عنها] اهـ.
ولا يخفى هنا ما في رعاية الأولاد من تعدي المنفعة -رغم أنها واجبة والعمرة سُنّةٌ للمستطيع؛ كما سبق- مع كون عبادة العمرة منفعتها قاصرة على مَن يقوم بها.
والثالث: أن القيام بالعمرة حق لله تعالى، ورعاية الأطفال والحفاظ عليهم حق لهم وحق للمجتمع، وقد تقرر أن حقوق العباد مبنية على المشاحة، وحقوق الله مبنية على المسامحة، فيلزم من ذلك تقديم حقوق العباد عند التعارض على ما يمكن إرجاؤه من العبادات.
قال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (12/ 195، ط. دار الكتب العلمية): [حقوق الله تعالى موضوعة على المساهلة والمسامحة، وحقوق العباد موضوعة على الاستقصاء والمشاحة] اهـ.
وقال العلامة ابن رجب في "فتح الباري" (4/ 217، ط. مكتبة الغرباء الأثرية): [إن الأحاديث كلها دالة على أن أفضل الأعمال الشهادتان مع توابعهما، وهي بقية مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعها -أيضًا- من فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عزَّ وجلَّ، ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي من فروض الأعيان، كبِرِّ الوالدين، ثم بعد ذلك أعمال التطوع المقربة إلى الله] اهـ.